سورة المائدة - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


نقب في الجبل والحائط فتح فيه ما كان منسدّاً، والتنقيب التفتيش، ومنه {فنقبوا في البلاد} ونقب على القوم ينقب إذا صار نقيباً، أي يفتش عن أحوالهم وأسرارهم، وهي النقابة. والنقاب الرجل العظيم، والنقب الجرب واحده النقبة، ويجمع أيضاً على نقب على وزن ظلم، وهو القياس. وقال الشاعر:
متبذلاً تبدو محاسنه *** يضع الهناء مواضع النقب
أي الجرب. والنقبة سراويل بلا رجلين، والمناقب الفضائل التي تظهر بالتنقيب. وفلانة حسنة النقبة النقاب أي جميلة، والظاهر أنّ النقيب فعيل للمبالغة كعليم، وقال أبو مسلم: بمعنى مفعول، يعني أنهم اختاروه على علم منهم. وقال الأصم: هو المنظور إليه المسند إليه الأمر والتدبير، عزر الرجل قال يونس بن حبيب: أثنى عليه بخير. وقال أبو عبيدة: عظمة. وقال الفراء: رده عن الظلم: ومنه التعزير لأنه يمنع من معاودة القبيح. قال القطامي:
ألا بكرت ميّ بغير سفاهة *** تعاتب والمودود ينفعه العزر
أي المنع. وقال آخر في معنى التعظيم:
وكم من ماجد لهم كريم *** ومن ليث يعزّر في النديّ
وعلى هذه النقول يكون من باب المشترك. وجعله الزمخشري من باب المتواطئ قال: عزرتموه نصرتموه ومنعتموه من أيدي العدوّ، ومنه التعزير وهو التنكيل والمنع من معاودة الفساد، وهو قول الزجاج، قال: التعزير الرّدع، عزرت فلاناً فعلت به ما يردعه عن القبيح، مثل نكلت به. فعلى هذا يكون تأويل عزرتموهم رددتم عنهم أعداءهم انتهى. ولا يصح إلا إن كان الأصل في عزرتموهم أي عزرتم بهم.
طلع الشيء برز وظهر، واطلع افتعل منه. غرا بالشيء غراء، وغر ألصق به وهو الغرى الذي يلصق به. وأغرى فلان زيداً بعمرو ولعه به، وأغريت الكلب بالصيد أشليته. وقال النضر: أغرى بينهم هيج. وقال مورج: حرش بعضهم على بعض. وقال الزجاج: ألصق بهم. الصنع: العمل. الفترة: هي الانقطاع، فتر الوحي أي انقطع. والفترة السكون بعد الحركة في الإجرام، ويستعار للمعاني. قال الشاعر:
وإني لتعروني لذكراك فترة ***
والهاء فيه ليست للمرة الواحدة، بل فترة مرادف للفتور. ويقال: طرف فاتر إذا كان ساجياً. الجبار: فعال من الجبر، كأنه لقوته وبطشه يجبر الناس على ما يختارونه. والجبارة النخلة العالية التي لا تنال بيد، واسم الجنس جبار. قال الشاعر:
سوابق جبار أثيث فروعه *** وعالين قنوانا من البسر أحمرا
التيه في اللغة: الحيرة، يقال منه: تاه، يتيه، ويتوه، وتوهته، والتاء أكثر، والأرض التوهاء التي لا يهتدى فيها، وأرض تيه. وقال ابن عطية: التيه الذهاب في الأرض إلى غير مقصود. الأسى: الحزن، يقال منه: أسى يأسى. {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً} مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه أمر بذكر الميثاق الذي أخذه الله على المؤمنين في قوله: {وميثاقه الذي واثقكم به} ثم ذكر وعده إياهم، ثم أمرهم بذكر نعمته عليه إذ كف أيدي الكفار عنهم، ذكرهم بقصة بني إسرائيل في أخذ الميثاق عليهم، ووعده لهم بتكفير السيآت، وإدخالهم الجنة، فنقضوا الميثاق وهموا بقتل الرسول، وحذرهم بهذه القصة أن يسلكوا سبيل بني إسرائيل هو بالإيمان والتوحيد. وبعث النقباء قيل: هم الملوك بعثوا فيهم يقيمون العدل، ويأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر. والنقيب: كبير القوم القائم بأمورهم. والمعنى في الآية: أنه عدد عليهم نعمه في أنْ بعث لأعدائهم هذا العدد من الملوك قاله النقاش. وقال: ما وفى منهم إلا خمسة: داود. وسليمان ابنه، وطالوت، وحزقيل، وابنه وكفر السبعة وبدلوا وقتلوا الأنبياء، وخرج خلال الاثني عشر اثنان وثلاثون جباراً كلهم يأخذ الملك بالسيف، ويعبث فيهم، والبعث: من بعث الجيوش. وقيل: هو من بعث الرسل وهو إرسالهم والنقباء الرسل جعلهم الله رسلاً إلى قومهم كل نبي منهم إلى سبط.
وقيل: الميثاق هنا والنقباء هو ما جرى لموسى مع قومه في جهاد الجبارين، وذلك أنه لما استقر بنو إسرائيل بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله بالمسير إلى أريحا أرض الشام، وكان يسكنها الكفار الكنعانيون الجبابرة وقال لهم: إني كتبتها لكم داراً وقراراً فاخرجوا إليها، وجاهدوا من فيها، وإني ناصركم. وأمر موسى أنْ يأخذ من كل سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أمروا به توثقة عليهم، فاختار النقباء، وأخذ الميثاق على بني إسرائيل، وتكفل لهم به النقباء، وسار بهم فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون فرأوا أجراماً عظاماً وقوة وشوكة، فهابوا ورجعوا وحدثوا قومهم، وقد نهاهم موسى أن يحدثوهم، فنكثوا الميثاق، إلا كالب بن يوقنا من سبط يهودا، ويوشع بن نون من سبط أفراثيم بن يوسف وكانا من النقباء. وذكر محمد بن حبيب في المحبر أسماء هؤلاء النقباء الذين اختارهم موسى في هذه القصة بألفاظ لا تنضبط حروفها ولا شكلها، وذكرها غيره مخالفة في أكثرها لما ذكره ابن حبيب لا ينضبط أيضاً. وذكروا من خلق هؤلاء الجبارين وعظم أجسامهم وكبر قوالبهم ما لا يثبت بوجه، قالوا وعدد هؤلاء النقباء كان بعدد النقباء الذين اختارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبعين رجلاً والمرأتين الذين بايعوه في العقبة الثانية، وسماهم: النقباء.
{وقال الله إني معكم} أي بالنصر والحياطة. وفي هذه المعية دلالة على عظم الاعتناء والنصرة، وتحليل ما شرطه عليهم مما يأتي بعد، وضمير الخطاب هو لبني إسرائيل جميعاً. وقال الربيع: هو خطاب للنقباء، والأول هو الراجح لانسحاب الأحكام التي بعد هذه الجملة على جميع بني إسرائيل.
{لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئآتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار} اللام في لئن أقمتم هي المؤذنة بالقسم والموطئة بما بعدها، وبعد أداة الشرط أن يكون جواباً للقسم، ويحتمل أن يكون القسم محذوفاً، ويحتمل أن يكون لأكفرن جواباً لقوله: ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل، ويكون قوله: وبعثنا والجملة التي بعده في موضع الحال، أو يكونان جملتي اعتراض، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه.
وقال الزمخشري: وهذا الجواب يعني لأكفرنّ، ساد مسد جواب القسم والشرط جميعاً انتهى. وليس كما ذكر لا يسدّ لأكفرن مسدَّهما، بل هو جواب القسم فقط، وجواب الشرط محذوف كما ذكرنا. والزكاة هنا مفروض من المال كان عليهم، وقيل: يحتمل أن يكون المعنى: وأعطيتم من أنفسكم كل ما فيه زكاة لكم حسبما ندبتم إليه قاله: ابن عطية. والأول وهو الراجح.
وآمنتم برسلي، الإيمان بالرسل هو التصديق بجميع ما جاؤا به عن الله تعالى. وقدّم الصلاة والزكاة على الإيمان تشريفاً لهما، وقد علم وتقرر أنه لا ينفع عمل إلا بالإيمان قاله: ابن عطية. وقال أبو عبد الله الرازي: كان اليهود مقرين بحصول الإيمان مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وكانوا مكذبين بعض الرسل، فذكر بعدهما الإيمان بجميع الرسل، وأنه لا تحصل نجاة إلا بالإيمان بجميعهم انتهى ملخصاً. وقرأ الحسن: برسلي بسكون السين في جميع القرآن، وعزرتموهم. وقرأ عاصم الجحدري: وعزرتموهم خفيفة الزاي. وقرأ في الفتح: {وتعزروه} فتح التاء وسكون العين وضم الزاي، ومصدره العزر. وأقرضتم الله قرضاً حسناً: إيتاء الزكاة هو في الواجب، وهذا القرض هو في المندوب. ونبه على الصدقات المندوبة بذكرها فيما يترتب على المجموع تشريفاً وتعظيماً لموقعها من النفع المتعدي. قال الفراء: ولو جاء إقراضاً لكان صواباً، أقيم الاسم هنا مقام المصدر كقوله تعالى: {فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً} لم يقل بتقبيل ولا إنباتاً انتهى. وقد فسر هذا الإقراض بالنفقة في سبيل الله، وبالنفقة على الأهل، وبالزكاة. وفيه بعد، لأنه تكرار. ووصفه بحسن إما لأنه لا يتبع بمن ولا أذى، وأما لأنه عن طيب نفس. لأكفرن عنكم سيآتكم ولأدخلنكم جنات: رتب على هذه الخمسة المشروطة تكفير السيآت، وذلك إشارة إلى إزالة العقاب، وإدخال الجنات، وذلك إشارة إلى إيصال الثواب.
{فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضلّ سواء السبيل} أي بعد ذلك الميثاق المأخوذ والشرط المؤكد فقد أخطأ الطريق المستقيم. وسواء السبيل وسطه وقصده المؤدي إلى القصد، وهو الذي شرعه الله. وتخصيص الكفر بتعدية أخذ الميثاق وإن كان قبله ضلالاً عن الطريق المستقيم، لأنه بعد الشرط المؤكد بالوعد الصادق الأمين العظيم أفحش وأعظم، إذ يوجب أخذ الميثاق الإيفاء به، لا سيما بعد هذا الوعيد عظم الكفر هو بعظم النعمة المكفورة.
{فبما نقضهم ميثاقهم} تقدم الكلام على مثل هذه الجملة.
{لعناهم} أي طردناهم وأبعدناهم من الرحمة قاله: عطاء والزجاج.
أو عذبناهم بالمسح قردة وخنازير كما قال: {أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت} أي نمسخهم كما مسخناهم قاله: الحسن، ومقاتل. أو عذبناهم بأخذ الجزية قاله: ابن عباس. وقال قتادة: نقضوا الميثاق بتكذيب الرسل الذين جاءوا بعد موسى وقتلهم الأنبياء بغير حق وتضييع الفرائض.
{وجعلنا قلوبهم قاسية} قال ابن عباس: جافية جافة. وقيل: غليظة لا تلين. وقيل: منكرة لا تقبل الوعظ، وكل هذا متقارب. وقسوة القلب غلظه وصلابته حتى لا ينفعل لخير. وقرأ الجمهور من السبعة: قاسية اسم فاعل من قسا يقسو. وقرأ عبد الله وحمزة والكسائي: قسية بغير ألف وبتشديد الياء، وهي فعيل للمبالغة كشاهد وشهيد. وقال قوم: هذه القراءة ليست من معنى القسوة، وإنما هي كالقسية من الدراهم، وهي التي خالطها غش وتدليس، وكذلك القلوب لم يصل الإيمان بل خالطها الكفر والفساد. قال أبو زبيد الطائي:
لهم صواهل في صم السلاح كما *** صاح القسيات في أيدي الصياريف
وقال آخر:
فما زادوني غير سحق عمامة *** وخمس ميء فيها قسي وزائف
قال الفارسي: هذه اللفظة معربة وليست بأصل في كلام العرب. وقال الزمخشري وقرأ عبد الله قسية أي رديئة مغشوشة من قولهم: درهم قسي، وهو من القسوة، لأن الذهب والفضة الخالصتين فيهما لين، والمغشوش فيه يبس وصلابة. والقاسي والقاسح بالحاء إخوان في الدلالة على اليبس والصلابة انتهى. وقال المبرد: سمى الدرهم الزائف قسيًّا لشدته بالغش الذي فيه، وهو يرجع إلى المعنى الأول، والقاسي والقاسح بمعنى واحد انتهى. وقول المبرد: مخالف لقول الفارسي، لأن المعهود جعله عربياً من القسوة، والفارسي جعله معرباً دخيلاً في كلام العرب وليس من ألفاظها.
وقرأ الهيصم بن شراح: قسية بضم القاف وتشديد الياء، كحيى. وقرئ بكسر القاف اتباعاً. وقال الزمخشري: خذلناهم ومنعناهم الألطاف حتى قست قلوبهم، أو أملينا لهم ولم نعاجلهم بالعقوبة حتى قست انتهى. وهو على مذهبه الاعتزالي. وأما أهل السنة فيقولون: إن الله خلق القسوة في قلوبهم.
{يحرفون الكلم عن مواضعه} أي يغيرون ما شق عليهم من أحكامها، كآية الرجم بدلوها لرؤسائهم بالتحميم وهو تسويد الوجه بالفحم قال معناه ابن عباس وغيره، وقالوا: التحريف بالتأويل لا بتغيير الألفاظ، ولا قدرة لهم على تغييرها ولا يمكن. ألا تراهم وضعوا أيديهم على آية الرجم؟ وقال مقاتل: تحريفهم الكلم هو تغييرهم صفة الرسول أزالوها وكتبوا مكانها صفة أخرى فغيروا المعنى والألفاظ، والصحيح أن تحريف الكلم عن مواضعه هو التغيير في اللفظ والم


الغراب: طائر معروف ويجمع في القلة على أغربة، وفي الكثرة على غربان. وغراب اسم جنس وأسماء الأجناس إذا وقعت على مسمياتها من غير أن تكون منقولة من شيء، فإن وجد فيها ما يمكن اشتقاقه حمل على أنه مشتق، إلا أنَّ ذلك قليل جدّاً، بل الأكثر أن تكون غير مشتقة نحو: تراب، وحجر، وماء. ويمكن غراب أن يكون مأخوذاً من الاغتراب، فإن العرب تتشاءم به وتزعم أنه دال على الفراق. وقال حران العود:
وأما الغراب فالغريب المطوّح. وقال الشنفري:
غراب لاغتراب من النوى *** وبالباذين من حبيب تعاشره
البحث في الأرض نبش التراب وإثارته، ومنه سميت براءة بحوث. وفي المثل: لا تكن كالباحث عن الشفرة. السوأة: العورة. العجز: عدم الإطاقة، وماضيه على فعل بفتح العين، وهي اللغة الفاشية. وحكى الكسائي فيه: فعل بكسر العين. الندم: التحسر يقال منه: ندم يندم. الصلب معروف وهو إصابة صلبة بجذع، أو حائط كما تقول: عانه أي أصاب عينه، وكيده أصاب كيده. الخلاف: المخالفة، ويقال: فرس به شكال من خلاف إذا كان في يده. نفاه: طرده فانتفى، وقد لا يتعدّى نفي. قال القطامي: فأصبح جاراكم قتيلاً ونافيا. أي منفيا.
الوسيلة الواسلة ما يتقرب منه. يقال: وسله وتوسل إليه، واستعيرت الوسيلة لما يتقرب به إلى الله تعالى من فعل الطاعات. وقال لبيد:
أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم *** ألا كل ذي لب إلى الله واسل
وأنشد الطبري:
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا *** وعاد التصابي بيننا والوسائل
السارق اسم فاعل من سرق يسرق سرقاً والسرق والسرقة الاسم كذا قال بعضهم وربما قالوا سرقة مالاً. قال ابن عرفة السارق عند العرب من جاء مستتراً إلى حرز فأخذ منه ما ليس له. {واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر} مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر تمرّد بني إسرائيل وعصيانهم، أمر الله تعالى في النهوض لقتال الجبارين، ذكر قصة ابني آدم وعصيان قابيل أمر الله، وأنهم اقتفوا في العصيان أول عاص لله تعالى، وأنهم انتهوا في خور الطبيعة وهلع النفوس والجبن والفزع إلى غاية بحيث قالوا لنبيهم الذي ظهرت على يديه خوارق عظيمة، وقد أخبرهم أن الله كتب لهم الأرض المقدسة: {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} وانتهى قابيل إلى طرف نقيض منهم من الجسارة والعتوّ وقوة النفس وعدم المبالاة بأن أقدم على أعظم الأمور وأكبر المعاصي بعد الشرك وهو قتل النفس التي حرم الله قتلها، بحيث كان أول من سنّ القتل، وكان عليه وزره ووزر من عمل به إلى يوم القيامة، فاشتبهت القصتان من حيث الجبن عن القتل والإقدام عليه، ومن حيث المعصية بهما.
وأيضاً فتقدم قوله أوائل الآيات {إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم} وبعده {قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب} وقوله: {نحن أبناء الله وأحباؤه} ثم قصة محاربة الجبارين، وتبين أنّ عدم اتباع بني إسرائيل محمداً صلى الله عليه وسلم إنما سببه الحسد هذا مع علمهم بصدقه.
وقصة ابني آدم انطوت على مجموع هذه الآيات من بسط اليد، ومن الأخبار بالمغيب، ومن عدم الانتفاع بالقرب، ودعواه مع المعصية، ومن القتل، ومن الحسد. ومعنى واتل عليهم: أي اقرأ واسرد، والضمير في عليهم ظاهره أنه يعود على بني إسرائيل إذ هم المحدث عنهم أولاً، والمقام عليهم الحجج بسبب همهم ببسط أيديهم إلى الرسول. والمؤمنين فاعلموا بما هو في غامض كتبهم الأول التي لا تعلق للرسول بها إلا من جهة الوحي، لتقوم الحجة بذلك عليهم، إذ ذلك من دلائل النبوّة. والنبأ: هو الخبر. وابنا آدم في قول الجمهور عمر، وابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وغيرهما: هما قابيل وهابيل، وهما ابناه لصلبه. وقال الحسن: لم يكونا ولديه لصلبه، وإنما هما أخوان من بني إسرائيل. قال: لأن القربان إنما كان مشروعاً في بني إسرائيل، ولم يكن قبل، ووهم الحسن في ذلك. وقيل عليه كيف يجهل الدفن في بني إسرائيل حتى يقتدى فيه بالغراب؟ وأيضاً فقد قال الرسول عنه: «إنه أول من سن القتل» وقد كان القتل قبل في بني إسرائيل.
ويحتمل قوله: بالحق، أن يكون حالاً من الضمير في: واتل أي: مصحوباً بالحق، وهو الصدق الذي لا شك في صحته، أو في موضع الصفة لمصدر محذوف أي: تلاوة ملتبسة بالحق، والعامل في إذ نبأ أي حديثهما وقصتهما في ذلك الوقت. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون بدلاً من النبأ أي: اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت على تقدير حذف المضاف انتهى. ولا يجوز ما ذكر، لأن إذ لا يضاف إليها إلا الزمان، ونبأ ليس بزمان.
وقد طوّل المفسرون في سبب تقريب هذا القربان وملخصه: أنّ حواء كانت تلد في كل بطن ذكراً وأنثى، وكان آدم يزوّج ذكر هذا البطن أنثى ذلك البطن، وأنثى هذا ذكر ذلك، ولا يحل للذكر نكاح توءمته، فولد مع قابيل أخت جميلة اسمها اقليميا، وولد مع هابيل أخت دون تلك اسمها لبوذا، فأبى قابيل إلا أن يتزوّج توءمته لا توءمة هابيل وأن يخالف سنة النكاح إيثاراً لجمالها، ونازع قابيل هابيل في ذلك، فقيل: أمرهما آدم بتقريب القربان. وقيل: تقرباً من عند أنفسهما، إذ كان آدم غائباً توجه إلى مكة لزيارة البيت بإذن ربه. والقربان الذي قرباه: هو زرع لقابيل، وكان صاحب زرع، وكبش هابل وكان صاحب غنم، فتقبل من أحدهما وهو هابيل، ولم يتقبل من الآخر وهو قابيل.
أي: فتقبل القربان، وكانت علامة التقبل أكل النار النازلة من السماء القربان المتقبل، وترك غير المتقبل. وقال مجاهد: كانت النار تأكل المردود، وترفع المقبول إلى السماء. وقال الزمخشري: يقال: قرب صدقة وتقرب بها، لأن تقرب مطاوع قرب انتهى. وليس تقرّب بصدقة مطاوع قرب صدقة، لاتحاد فاعل الفعلين، والمطاوعة يختلف فيها الفاعل، فيكون من أحدهما فعل، ومن الآخر انفعال نحو: كسرته فانكسر، وفلقته فانفلق، وليس قربت صدقة وتقربت بها من هذا الباب فهو غلط فاحش.
{قال لأقتلنك} هذا وعيد وتهديد شديد، وقد أبرز هذا الخبر مؤكداً بالقسم المحذوف أي: لأقتلنك حسداً على تقبل قربانك، وعلى فوزك باستحقاق الجميلة أختي. وقرأ زيد بن علي: لأقتلنك بالنون الخفيفة.
{قال إنما يتقبل الله من المتقين} قال ابن عطية: قبله كلام محذوف تقديره: لم تقتلني وأنا لم أجن شيئاً ولا ذنب لي في قبول الله قرباني؟ أما أني أتقيه؟ وكتب علي: لأحب الخلق إنما يتقبل الله من المتقين، وخطب الزمخشري هنا فقال: (فإن قلت): كيف كان قوله: إنما يتقبل الله من المتقين، جواباً لقوله: لأقتلنك؟ (قلت): لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل قال له: إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى، لا من قبلي، فلم تقتلني؟ وما لك لا تعاقب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول، فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان. وفيه دليل على أن الله تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم. وعن عامر بن عبد الله: أنه بكى حين حضرته الوفاة فقيل له: ما يبكيك فقد كنت وكنت: قال: إني أسمع الله يقول: {إنما يتقبل الله من المتقين} انتهى كلامه. ولم يخل من دسيسة الاعتزال على عادته، يحتاج الكلام في فهمه إلى هذه التقديرات، والذي قدرناه أولاً كاف وهو: أنّ المعنى لأقتلنك حسداً على تقبل قربانك، فعرض له بأن سبب قبول القربان هو التقوى وليس متقياً، وإنما عرض له بذلك لأنه لم يرض بسنة النكاح التي قرّرها الله تعالى، وقصد خلافها ونازع، ثم كانت نتيجة ذلك أن برزت في أكبر الكبائر بعد الشرك وهو قتل النفس التي حرمها الله. قال ابن عطية: وأجمع أهل السنة في معنى هذه الألفاظ أنها اتقاء الشرك، فمن اتقاه وهو موحد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة. وقال عدي بن ثابت وغيره: قربان هذه الأمة الصلاة. وقول من زعم أن قوله: إنما يتقبل الله من المتقين، ليس من كلام المقتول، بل هو من كلام الله تعالى للرسول اعتراضاً بين كلام القاتل والمقتول، والضمير عائد في قال على الله ليس بظاهر.
{لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك} قال ابن عباس: المعنى ما أنا بمنتصر لنفسي. وقال عكرمة: المعنى ما كنت لأبتدئك بالقتل. وقال مجاهد والحسن: لم يكن الدفع عن النفس في ذلك الوقت جائزاً. وقال عبد الله بن عمرو وابن عباس والجمهور: كان هابيل أشد قوّة من قابيل، ولكنه تحرج من القتل، وهذا يدل على أن القاتل ليس بكافر وإنما هو عاص، إذ لو كان كافراً لما تحرّج هابيل من قتله، وإنما استسلم له كما استسلم عثمان بن عفان. وقيل: إنما ترك الدفع عن نفسه لأنه ظهرت له مخيلة انقضاء عمره فبنى عليها، أو بإخبار أبيه، وكما جرى لعثمان إذ بشره الرسول بالجنة على بلوى تصيبه، ورآه في اليوم الذي قتل في النوم وهو يقول: «إنك تفطر الليلة عندنا» فترك الدفع عن نفسه حتى قتل، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الق على وجهك وكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل». وقيل: إنّ هابيل لاحت له أمارات غلبة الظن من قابيل على قتله، ولكن لم يتحقق ذلك، فذكر له هذا الكلام قبل الإقدام على القتل ليزدجر عنه وتقبيحاً لهذا الفعل، ولهذا يروى أنّ قابيل صبر حتى نام هابيل فضرب رأسه بحجر كبير فقتله. وقال ابن جرير: ليس في الآية دليل على أنّ المقتول علم عزم القاتل على قتله، ثم ترك الدفع عن نفسه. قال الزمخشري: (فإن قلت): لم جاء الشرط بلفظ الفعل والجزاء بلفظ اسم الفاعل، وهو قوله: لئن بسطت ما أنا بباسط، (قلت): ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع، ولذلك أكده بالباء المؤكدة للنفي انتهى. وأورد أبو عبد الله الرازي هذا السؤال والجواب ولم ينسبه للزمخشري، وهو كلام فيه انتقاد. وذلك أن قوله: ما أنا بباسط، ليس جزاء بل هو جواب للقسم المحذوف قبل اللام في لئن المؤذنة بالقسم والموطئة للجواب، لا للشرط. وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، ولو كان جواباً للشرط لكان بالفاء، فإنه إذا كان جواب الشرط منفياً بما فلا بد من الفاء كقوله: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات} ما كان حجتهم إلا أن قالوا: ولو كان أيضاً جواباً للشرط للزم من ذلك خرم القاعدة النحوية من أنه إذا تقدم القسم على الشرط فالجواب للقسم لا للشرط. وقد خالف الزمخشري كلامه هذا بما ذكره في البقرة في قوله: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} فقال: ما تبعوا جواب القسم المحذوف سد مسد جواب الشرط، وتكلمنا معه هناك فينظر.
{إني أخاف الله رب العالمين} هذا ذكر لعلة الامتناع في بسط يده إليه للقتل، وفيه تنبيه على أن القاتل لا يخاف الله.
{إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار} ذهب قوم إلى أنّ الإرادة هنا مجاز لا محبة إيثار شهوة، وإنما هي تخيير في شرين كما تقول العرب: في الشر خيار، والمعنى: إنْ قتلتني وسبق بذلك قدر، فاختياري أن أكون مظلوماً ينتصر الله لي في الآخرة. وذهب قوم إلى أنّ الإرادة هنا حقيقة لا مجاز، لا يقال: كيف جاز أن يريد شقاوة أخيه وتعذيبه بالنار، لأن جزاء الظالم حسن أن يراد، وإذا جاز أن يريده الله تعالى جاز أن يريده العبد لأنه لا يريد إلا ما هو حسن قاله الزمخشري، وفيه دسيسة الاعتزال. وقال ابن كيسان: إنما وقعت الإرادة بعد ما بسط يده للقتل وهو مستقبح، فصار بذلك كافراً لأن من استحل ما حرم الله فقد كفر، والكافر يريد أن يراد به الشر. وقيل: المعنى أنه لما قال: لأقتلنك استوجب النار بما تقدم في علم الله، وعلى المؤمن أن يريد ما أراد الله، وظاهر الآية أنهما آثمان. قال ابن مسعود، وابن عباس، والحسن وقتادة: تحمل إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي، فحذف المضاف، هذا قول عامة المفسرين. وقال الزجاج: بإثم قتلي وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك، وهو راجع في المعنى إلى ما قبله. وقيل: المعنى بإثمي إنْ لو قاتلتك وقتلتك، وإثم نفسك في قتالي وقتلي، وهذا هو الإثم الذي يقتضيه قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار». قيل: يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصاً على قتل صاحبه» فكأنّ هابيل أراد أني لست بحريص على قتلك، فالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصاً على قتلك أريد أن تحمله أنت مع إثمك في قتلي.
قال الزمخشري (فإن قلت): كيف يحتمل إثم قتله له {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (قلت): المراد بمثل إثمي على الاتساع في الكلام كما تقول: قرأت قراءة فلان، وكتبت كتابته، تريد المثل وهو اتساع فاش مستفيض لا يكاد يستعمل غيره. (فإن قلت): فحين كف هابيل عن قتل أخيه واستسلم وتحرج عما كان محظوراً في شريعته من الدفع، فأين الإثم حتى يتحمل أخوه مثله، فيجتمع عليه الإثمان؟ (قلت): هو مقدّر فهو يتحمل مثل الإثم المقدر، كأنه قال: إني أريد أن تبوء بمثل إثمي لو بسطت إليك يدي انتهى. وقيل: بإثمي، الذي يختص بي فيما فرط لي، أي: يؤخذ من سيئآتي فتطرح عليك بسبب ظلمك لي، وتبوء بإثمك في قتلي. ويعضد هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالظالم والمظلوم يوم القيامة فيؤخذ من حسنات الظالم فيزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه».
وتلخص من قوله بإثمي وإثمك وجهان: أحدهما: بإثمي اللاحق لي، أي: بمثل إثمي اللاحق لي على تقدير وقوع قتلي لك، وإثمك اللاحق لك بسبب قتلي. الثاني: بإثمي اللاحق لك بسبب قتلي، وأضافه إليه لما كان سبباً له، وإثمك اللاحق لك قبل قتلي. وهذان الوجهان على إثبات الإرادة المجازية والحقيقية. وقيل المعنى على النفي، التقدير: إني أريد أن لا تبوء بإثمي وإثمك كقوله: {رواسي أن تميد بكم} أي أن لا تميد، وأن تضلوا أي: لا تضلوا، فحذف لا. وهذا التأويل فرار من إثبات إرادة الشرّ لأخيه المؤمن، وضعف القرطبي هذا الوجه بقول صلى الله عليه وسلم: «لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل» فثبت بهذا أنّ إثم القاتل حاصل انتهى. ولا يضعف هذا القول بما ذكره القرطبي، لأن قائل هذا لا يلزم من نفي إرادته القتل أن لا يقع القتل، بل قد لا يريده ويقع. ونصر تأويل النفي الماوردي وقال: إن القتل قبيح، وإرادة القبيح قبيحة، ومن الأنبياء أقبح. ويؤيد هذا التأويل قراءة من قرأ إني أريد، أي كيف أريد؟ ومعناه استبعاد الإرادة ولهذا قال، بعض المفسرين: إنّ هذا الإستفهام على جهة الإنكار، أي: أني، فحذف الهمزة لدلالة المعنى عليه، لأن إرادة القتل معصية حكاه القشيري انتهى. وهذا كله خروج عن ظاهر اللفظ لغير ضرورة وقد تقدم إيضاح الإرادة، وجواز ورودها هنا، واستدل بقوله: فتكون من أصحاب النار، على أنّ قابيل كان كافراً لأنّ هذا اللفظ إنما ورد في القرآن في الكفار، وعلى هذا القول ففيه دليل على أنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، ولا يقوي هذا الاستدلال لأنّه يكنى عن المقام في النار مدة بالصحبة.
{وذلك جزاء الظالمين} أي وكينونتك من أصحاب النار جزاؤك، لأنك ظالم في قتلي. ونبه بقوله: الظالمين، على السبب الموجب للقتل، وأنه قتل بظلم لا بحق. والظاهر أنه من كلام هابيل نبهه على العلة ليرتدع. وقيل: هو من كلام الله تعالى، لا حكاية كلام هابيل، بل إخبار منه تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم.
{فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله} قال ابن عباس: بعثته على قتله. وقال أيضاً هو ومجاهد: شجعته. وقال قتادة: زينت له. وقال الأخفش: رخصت. وقال المبرد: من الطوع، والعرب تقول: طاع له كذا أي أتاه طوعاً. وقال ابن قتيبة: تابعته وانقادت له. وقال الزمخشري: وسعته له ويسرته، من طاع له المرتع إذا اتسع. وهذه أقوال متقاربة في المعنى، وهو فعل من الطوع وهو الانقياد، كأن القتل كان ممتنعاً عليه متعاصياً. وأصله: طاع له قتل أخيه أي انقاد له وسهل، ثم عدى بالتضعيف فصار الفاعل مفعولاً والمعنى: أنّ القتل في نفسه مستصعب عظيم على النفوس، فردّته هذه النفس اللحوح الأمارة بالسوء طائعاً منقاداً حتى أوقعه صاحب هذه النفس.
وقرأ الحسن وزيد بن علي والجراح، والحسن بن عمران، وأبو واقد: فطاوعته، فيكون فاعل فيه الاشتراك نحو: ضاربت زيداً، كان القتل يدعوه بسبب الحسد إصابة قابيل، أو كان النفس تأبى ذلك ويصعب عليها، وكل منهما يريد أن يطيعه الآخر، إلى أن تفاقم الأمر وطاوعت النفس القتل فوافقته. وقال الزمخشري: فيه وجهان: أن يكون مما جاء من فاعل بمعنى فعل، وأن يراد أن قتل أخيه، كأنه دعا نفسه إلى الإقدام عليه فطاوعته ولم تمتنع، وله لزيادة الربط كقولك: حفظت لزيد ماله انتهى. فأما الوجه الثاني فهو موافق لما ذكرناه، وأما الوجه الأول فقد ذكر سيبويه: ضاعفت وضعفت مثل: ناعمت ونعمت. وقال: فجاءوا به على مثال عاقبته، وقال: وقد يجيء فاعلت لا يريد بها عمل اثنين، ولكنهم بنوا عليه الفعل كما بنوه على أفعلت، وذكر أمثلة منها عافاه الله. وهذا المعنى وهو أنّ فاعل بمعنى فعل، أغفله بعض المصنفين من أصحابنا في التصريف: كابن عصفور، وابن مالك، وناهيك بهما جمعاً واطلاعاً، فلم يذكر أنّ فاعل يجيء بمعنى فعل، ولا فعل بمعنى فاعل. وقوله: وله لزيادة الربط، يعني: في قوله فطوعت له نفسه، يعني: أنه لو جاء فطوعت نفسه قتل أخيه لكان كلاماً تاماً جارياً على كلام العرب، وإنما جيء به على سبيل زيادة الربط للكلام، إذ الربط يحصل بدونه. كما إنك لو قلت: حفظت مال زيد كان كلاماً تاماً فقتله، أخبر تعالى أنه قتله وتكلم المفسرون في أشياء من كيفيته، ومكان قتله، وعمره حين قتل، ولهم في ذلك اختلاف، ولم تتعرض الآية لشيء من ذلك.
{فأصبح من الخاسرين} أصبح: بمعنى صار. وقال ابن عطية: أقيم بعض الزمان مقام كله، وخص الصباح بذلك لأنه بدء النهار والانبعاث إلى الأمور ومظنة النشاط، ومنه قول الربيع: أصبحت لا أحمل السلاح ولا. وقول سعد: ثم أصبحت بنو سعد تعززني على الإسلام، إلى غير ذلك من استعمال العرب لما ذكرناه انتهى. وهذا الذي ذكره من تعليل كون أصبح عبارة عن جميع أوقاته، وأقيم بعض الزمان مقام كله بكون الصباح خص بذلك لأنه بدء النهار، ليس بجيد. ألا ترى أنهم جعلوا أضحى وظل وأمسى وبات بمعنى صار، وليس منها شيء بدء النهار؟ فكما جرت هذه مجرى صار كذلك أصبح لا للعلة التي ذكرها ابن عطية. قال ابن عباس: خسر في الدنيا بإسخاط والديه وبقائه بغير أخ، وفي الآخرة بإسخاط ربه وصيرويته إلى النار. وقال الزجاج: من الخاسرين للحسنات. وقال القاضي أبو يعلى: من الخاسرين أنفسهم بإهلاكهم إياها.
وقال مجاهد: خسرانه أن علقت إحدى رجلي القاتل لساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة، ووجهه إلى الشمس حيث ما دارت عليه في الصيف حظيرة من نار وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج. قال القرطبي: ولعلّ هذا يكون عقوبته على القول بأنه عاص لا كافر، فيكون خسرانه في الدنيا. وقيل: من الخاسرين باسوداد وجهه، وكفره باستحلاله ما حرم من قتل أخيه، وفي الآخرة بعذاب النار. وثبت في الحديث: «ما قتلت نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها، وذلك لأنه أول من سن القتل». وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال: إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة في العذاب عليه شطر عذابهم.
{فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه} روي أنه أول قتيل قتل على وجه الأرض، ولما قتله تركه بالعراء لا يدري ما يصنع به، فخاف السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى أروح، وعكفت عليه السباع، فبعث الله غرابين فاقتتلا، فقتل أحدهما الآخر، فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة فقال: يا ويلتي أعجزت. وقيل: حمله مائة سنة. وقيل: طلب في ثاني يوم إخفاء قتل أخيه فلم يدر ما يصنع. وقيل: بعث الله غراباً إلى غراب ميت، فجعل يبحث قي الأرض ويلقي التراب على الغراب الميت. وقيل: بعث الله غراباً واحداً فجعل يبحث ويلقي التراب على هابيل. وروي أنه أول ميت مات على وجه الأرض، وكذلك جهل سنة المواراة. والظاهر أنه غراب بعثه الله يبحث في الأرض ليرى قابيل كيف يواري سوءة هابيل، فاستفاد قابيل ببحثه في الأرض أن يبحث هو في الأرض فيستر فيه أخاه، والمراد بالسوءة هنا قيل: العورة، وخصت بالذكر مع أنّ المراد مواراة جميع الجسد للاهتمام بها، ولأن سترها أوكد. وقيل: جميع جيفته. قيل: فإن الميت كله عورة، ولذلك كفن بالأكفان. قال ابن عطية: ويحتمل أن يراد بالسوءة هذه الحالة التي تسوء الناظر بمجموعها، وأضيفت إلى المقتول من حيث نزلت به النازلة، لا على جهة الغض منه، بل الغض لاحق للقاتل وهو الذي أتى بالسوءة انتهى. والسوءة الفضيحة لقبحها قال الشاعر:
يا لقومي للسوءة السوآء ***
أي للفضيحة العظيمة. قالوا: ويحتمل إن صح أنه قتل غراب غراباً أو كان ميتاً، أن يكون الضمير في أخيه عائداً على الغراب، أي: ليرى قابيل كيف يواري الغراب سوءة أخيه وهو الغراب الميت، فيتعلم منه بالأداة كيف يواري قابيل سوءة هابيل، وهذا فيه بعد. لأن الغراب لا تظهر له سوءة، والظاهر أنّ الإرادة هنا من جعله يرى أي: يبصر، وعلق ليريه عن المفعول الثاني بالجملة التي فيها الاستفهام في موضع المفعول الثاني، وكيف معمولة ليواري.
وليريه متعلق بيبحث. ويجوز أن يتعلق بقوله: فبعث، وضمير الفاعل في ليريه الظاهر أنه عائد على الله تعالى، لأن الإراءة حقيقة هي من الله، إذ ليس للغراب قصد الإراءة وإرادتها. ويجوز أن يعود على الغراب أي: ليريه الغراب، أي: ليعلمه لأنه لما كان سبب تعليمه فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز، ويظهر أن الحكمة في أن كان هذا المبعوث غراباً دون غيره من الحيوان ومن الطيور كونه يتشاءم به في الفراق والاغتراب، وذلك مناسب لهذه القصة. وقيل: فبعث جملة محذوفة دل عليها المعنى تقديره: فجهل مواراته فبعث.
{قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي} استقصر إدراكه وعقله في جهله ما يصنع بأخيه حتى يعلم، وهو ذو العقل المركب فيه الفكر والرؤية والتدبير من طائر لا يعقل. ومعنى هذا الاستفهام: الإنكار على نفسه، والنعي أي: لا أعجز عن كوني مثل هذا الغرب، وفي ذلك هضم لنفسه واستصغار لها بقوله: مثل هذا الغراب. وأصل النداء أن يكون لمن يعقل، ثم قد ينادي ما لا يعقل على سبيل المجاز كقولهم: يا عجباً ويا حسرة، والمراد بذلك التعجب. كأنه قال: انظروا لهذا العجب ولهذه الحسرة، فالمعنى: تنبهوا لهذه الهلكة. وتأويله هذا أوانك فاحصري. وقرأ الجمهور: يا ويلتا بألف بعد التاء، وهي بدل من ياء المتكلم، وأصله يا ويلتي بالياء، وهي قراءة الحسن. وأمال حمزة والكسائي وأبو عمر وألف ويلتي. وقرأ الجمهور: أعجزت بفتح الجيم. وقرأ ابن مسعود، والحسن، وفياض، وطلحة، وسليمان: بكسرها وهي لغة شاذة، وإنما مشهور الكسر في قولهم: عجزت المرأة إذا كبرت عجيزتها. وقرأ الجمهور: فأواريَ بنصب الياء عطفاً على قوله: أن أكون. كأنه قال: أعجزتُ أن أواريَ سوءة أخي. وقال الزمخشري: فأواري بالنصب على جواب الاستفهام انتهى. وهذا خطأ فاحش، لأن الفاء الواقعة جواباً للاستفهام تنعقد من الجملة الاستفهامية والجواب شرط وجزاء، وهنا تقول: أتزورني فأكرمك، والمعنى: إن تزرني أكرمك. وقال تعالى: {فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا} أي إن يكن لنا شفعاء يشفعوا. ولو قلت هنا: إن أعجز أن أكون مثل هذا الغراب أوارِ سوءة أخي لم يصح، لأن المواراة لا تترتب على عجزه عن كونه مثل الغراب. وقرأ طلحة بن مصرف، والفياض بن غزوان: فأواريْ بسكون الياء، فالأولى أن يكون على القطع أي: فأنا أواري سوءة أخي، فيكون أواري مرفوعاً. وقال الزمخشري: وقرئ بالسكون على فأنا أواري، أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف انتهى. يعني: الزمخشري: وقرئ بالسكون على فأنا أواري، أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف انتهى. يعني: أنه حذف الحركة وهي الفتحة تخفيفاً استثقلها على حرف العلة. وقال ابن عطية: هي لغة لتوالي الحركات انتهى. ولا ينبغي أن يخرج على النصب، لأن نصب مثل هذا هو بظهور الفتحة، ولا تستثقل الفتحة فتحذف تخفيفاً كما أشار إليه الزمخشري، ولا ذلك لغة كما زعم ابن عطية، ولا يصلح التعليل بتوالي الحركات، لأنه لم يتوال فيه الحركات.
وهذا عند النحويين أعني النصب بحذف الفتحة، لا يجوز إلا في الضرورة، فلا تحمل القراءة عليها إذا وجد حملها على جه صحيح، وقد وجد وهو الاستئناف أي: فأنا أواري. وقرأ الزهري: سوة أخي بحذف الهمزة، ونقل حركتها إلى الواو. ولا يجوز قلب الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، لأن الحركة عارضة كهي في سمول وجعل. وقرأ أبو حفص: سوة بقلب الهمزة واواً، وأدغم الواو فيه، كما قالوا في شيء شي، وفي سيئة سية. قال الشاعر:
وإن رأوا سية طاروا بها فرحاً *** مني وما علموا من صالح دفنوا
{فأصبح من النادمين} قيل: هذه جملة محذوفة تقديره: فوارى سوءة أخيه. والظاهر أن ندمه كان على قتل أخيه لما لحقه من عصيان وإسخاط أبويه، وتبشيره أنه من أصحاب النار. وهذا يدل على أنه كان عاصياً لا كافراً. قيل: ولم ينفعه ندمه، لأن كون الندم توبة خاص بهذه الأمة. وقيل: من النادمين على حمله. وقيل: من النادمين خوف الفضيحة. وقال الزمخشري: من النادمين على قتله لما تعب من حمله، وتحيره في أمر، وتبين له من عجزه وتلمذته للغراب، واسوداد لونه، وسخط أبيه، ولم يندم ندم التائبين انتهى.
وقد اختلف العلماء في قابيل، أكان كافراً أم عاصياً؟ وفي الحديث: «إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلاً فخذوا من خيرها ودعوا شرها» وحكى المفسرون عجائب مما جرى بقتل هابيل من رجفان الأرض سبعة أيام، وشرب الأرض دمه، وإيسال الشجر، وتغير الأطعمة، وحموضة الفواكه، ومرارة الماء، واغبرار الأرض، وهرب قابيل بأخته إقليميا إلى عدن من أرض اليمن، وعبادته النار، وانهماك أولاده في اتخاذ آلات اللهو وشرب الخمر والزنا والفواحش حتى أغرقهم الله بالطوفان، والله أعلم بصحة ذلك. قال الزمخشري. وروي أن آدم مكث بعد قتله مائة سنةلا يضحك، وأنه رثاه بشعر. وهو كذب بحت، وما الشعر إلا منحول ملحون. وقد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر. وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس أنه قال: من قال إنّ آدم قال شعراً فهو كذب، ورمى ردم بما لا يليق بالنبوّة، لأن محمداً والأنبياء عليهم السلام، كلهم في النفي عن الشعر سواء. قال الله تعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} ولكنه كان ينوح عليه، وهو أول شهيد كان على وجه الأرض ويصف حزنه عليه نثراً من الكلام شبه المرثية، فتناسخته القرون وحفظوا كلامه، فلما وصل إلى يعرب بن قحطان وهو أول من خط بالعربية فنظمه فقال:
تغيرت البلاد ومن عليها *** فوجه الأرض مغبر قبيح
وذكر بعد هذا البيت ستة أبيات، وأنّ إبليس أجابه في الوزن والقافية بخمسة أبيات. وقول الزمخشري في الشعر: إنه ملحون، يسير فيه إلى البيت وهو الثاني:
تغير كل ذي لون وطعم *** وقل بشاشة الوجه المليح
يرويه بشاشة الوجه المليح على الاقواء، ويروى بنصب بشاشة من غير تنوين، ورفع الوجه المليح. وليس بلحن، قد خرجوه على حذف التنوين من بشاشة، ونصبه على التمييز، وحذف التنوين لالتقاء الألف واللام. قد جاء في كلامهم قرئ: {أحد الله الصمد} وروي ولا ذاكر الله بحذف التنوين {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في ال


أي فمن تاب من بعد ظلمه بالسرقة. وظلمه مضاف إلى الفاعل أي: من بعد أن ظلم غيره بأخذ مال أو سرقة. قيل: أو مضاف إلى المفعول أي: من بعد أن ظلم نفسه. وفي جواز هذا الوجه نظر إذ يصير التقدير: من بعد أن ظلمه. ولو صرح بهذا لم يجز، لأن فيه تعدي الفعل الرافع الضمير المتصل إلى الضمير المتصل المنصوب، وذلك لا يجوز إلا في باب ظن، وفقد، وعدم. ومعنى يتوب عليه أي: يتجاوز عنه ويقبل توبته. وظاهر الآية أنه بمجرد التوبة لا يقبل إلا إن ضم إلى ذلك الإصلاح وهو التنصل من التبعات بردها إنْ أمكن، وإلا بالاستحلال منها، أو بإنفاقها في سبيل الله إن جهل صاحبها. والغفران والرحمة كناية عن سقوط العقوبة عنه في الآخرة. قرأ الجمهور على أن الحد لا يسقط بالتوبة. وقال عطاء وجماعة: يسقط بالتوبة قبل القدرة على السارق، وهو أحد قولي الشافعي. وقال مجاهد: التوبة والإصلاح هي أن يقام عليه الحد.
{ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء} لما ذكر تعالى تصرفه في أحكام المحاربين وأحكام السرّاق، ولم يحاب ما ذكر من العقوبات عليهم، نبه على أن ذلك هو تصرف في ملكه، وملكه لا معقب لحكمه، فيعذب من يشاء عذابه وهم المخالفون لأمره، ويغفر لمن يشاء وهم التائبون. والخطاب في ألم تعلم قيل: للنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: لكل مكلف، وقيل: للمجترئ على السرقة وغيرها من المحظورات. فالمعنى: ألم تعلم أنّك عاجز عن الخروج عن ملكي، هارباً مني ومن عذابي، فلم اجترأت على ما منعتك منه؟ وأبعد من ذهب أنه خطاب اليهود كانوا بحضرة الرسول، والمعنى: ألم تعلموا أنه له ملك السموات والأرض، لا قرابة ولا نسب بينه وبين أحد حتى يحابيه، ويترك القائلين نحن أبناء الله وأحباؤه. قال الزمخشري: من يشاء من يجب في الحكم تعذيبه والمغفرة له من المصرّين والتائبين انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال. وقد يسقط حد الحربي إذا سرق بالتوبة ليكون أدعى له إلى الإسلام وأبعد من التنفير عنه، ولا نسقطه عن المسلم لأن في إقامته الصلاح للمؤمنين والحياة {ولكم في القصاص حياة} وقال ابن عباس والضحاك: يعذب من يشاء، أي من مات على كفره، ويغفر لمن يشاء ممن تاب عن كفره. وقيل: ذلك في الدنيا، يعذب من يشاء في الدنيا على معصيته بالقتل والخسف والسبي والأسر وإذهاب المال والجدب والنفي والخزي والجزية وغير ذلك، ويغفر لمن يشاء منهم في الدنيا بالتوبة عليه من كفره ومعصيته فينقذه من الهلكة وينجيه من العقوبة.
{والله على كل شيء قدير} كثيراً ما يعقب هذه الجملة ما دل على التصرّف التام، والملك والخلق والاختراع، وهي في غاية المناسبة عقيب ما ذكروه من ذلك قوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم}

1 | 2 | 3 | 4 | 5